أخشاب المغفرة
مع تناغم ألحان تغريد العصافير المتداخلة مع صوت هدير أمواج البحر، سُمعت من بعيدٍ أجراس الدواب وهي تقترب من الدير   بعيدٍ أجراس الدواب وهي تقترب من الدير .
كان نيقولاوس أحد الأشخاص الطيبين، وكان دائماً يعبر تلك الدرب المغطاة بأشجار الكستناء الخضراء لإحضار الأغراض وتوزيعها على الأديار. محملاً على حيواناته أخشاباً وأغراضاً أخرى عليه توزيعها.
- " صباح الخير نيقولا "، حيّاه الأب خاريتون الذي كان يرتب الأخشاب تحت القرميد خارج الدير. ثم سأله: "هل تستطيع من فضلك أن تحضر لنا بعض الخشب؟ ".
- "بالطبع! كم تريدون؟ ".
- "الآن لا يلزمنا سوى عشرة أكياسٍ كبيرةٍ وعندما توشك أن تنتهي سنطلب منك مجدداً "، أجاب الأب .
هكذا، توجّه نيقولاوس في وقتٍ متأخرٍ عصراً وفي نقلته الأخيرة لذلك اليوم نحو الدير .
- "هل هذا المكان جيد يا أبي لأنزل الحمولة فيه؟ "، سأل نيقولاوس مشيراً بيده إلى المكان الذي سيضع فيه الحمولة.
- "كلا يا مبارك! أحضرها إلى مكان أقرب. من سيستطيع حملها من ذلك المكان المرتفع؟ ".
- "لا تستطيع الحيوانات المرور يا أبانا، إنها تخاف من الجرف، سأترك الأخشاب هنا ".
وبدأ بإنزال الحمولة عن الحيوانات.
- "ما الذي تقوله يا نيقولا، طيلة هذه السنوات كانت الحيوانات تمرّ، والآن لا تستطيع! ستضعها هنا في الأسفل ".
- "قلت لك هذا غير ممكن! "، أجاب نيقولاوس بعصبية.
- "وأنا أقول ممكن! "، قال الآخر بعناد.
- "لا أستطيع! ".
- "تستطيع! ".

تجادلا وتخاصما ثم غادر نيقولاوس مع حيواناته منزعجاً، وعاد الأب خاريتون إلى الدير. لكن السلام كان قد غادر نفسه، كان مضطرباً ومنزعجاً. دخل بسرعةٍ إلى قلايته وأمسك مسبحته، لكن كان من المستحيل له أن يصلي مع حدة الغضب هذه.
- "يا إلهي، كيف انجرفت هكذا بالغضب؟ ".

مر بعض الوقت وهو جالس وحده على كرسيّ الصلاة. شيئاً فشيئاً بدأ يهدأ ويزول الغضب فعاد الفرح والسلام إلى نفسه، واقتربت منه نعمة الله مجدداً.
- "يا رب ارحم ما الذي فعلته؟ "، قال هذا ونهض فجأة.
- "كيف تركت الشيطان الماكر يسيطر عليّ؟ "، حدث نفسه وهو يسير ذهاباً وإياباً داخل قلايته الصغيرة.
"لماذا تصرفت هكذا مع هذا الإنسان؟ آهٍ كم أزعجته بسلوكي السّيئ. كم أسأت إلى إخوتي في الدير؟! كيف سأنظر في عيونهم؟ ". لم يستطع الأب خاريتون أن يهدأ، بعد أن شعر بخطئه.
"كيف ستتمم الذبيحة الإلهية بعد غدٍ يا خاريتون؟ "، سأل نفسه بصوتٍ مرتفعٍ. "كيف ستقول للمصلّين في الكنيسة السلام لجميعكم؟ كيف ستقترب من المائدة المقدسة، إن لم تجد هذا الإنسان وتطلب منه المسامحة أولاً؟ علي أن أجده مهما كلف الأمر، لكن سيحل الظلام بعد قليلٍ وستقفل أبواب الدير! "، تضاربت الأفكار في رأسه ولم يجد حلاً.
ثم عاد وجلس على كرسي الصلاة. نظر إلى أيقونة العذراء أمامه فنهض فجأةً وركع أمامها.
- " أيتها العذراء، ساعديني. بيني لي ما الذي عليّ فعله. أخطأتُ لكني نادمٌ. عليّ أن أجد نيقولاوس وأطلب منه المغفرة. أرجوك ساعديني ".

كان نور النهار قد تراجع أمام ظلمة الليل والأب خاريتون ما زال راكعاً يصلي. فجأةً انتفض من مكانه وكأنه سمع صوتاً يقول له أن يخرج إلى الدرب الخارجي ليحصل على المسامحة التي يطلبها، أشعل مصباحه بسرعةٍ، وأخذ مسبحته خرج من قلايته مصلياً. نزل على الدرج القديم المؤدي إلى الحديقة، وخرج عبر بوابةٍ صغيرةٍ خارج الدير.
وبينما كان يصعد المرتفع المتعرّج بدا له نورٌ خافتٌ آتٍ من الأعلى.
- " من يأتي إلينا في هذا الوقت؟ "، تساءل. وبعد لحظاتٍ التقيا.
- " مساء الخير يا نيقولا " .
- " أهلاً يا أبانا، أهلاً بك " .
بادر الأب خاريتون:
- " تشاجرنا ظهراً من أجل الأخشاب، سامحني يا أخي كان معك حق، أنا المخطئ، سامحني أرجوك " .
- " ليسامحك الله يا أبي، وأنت أيضاً سامحني، فأنا أيضاً أخطأت! "
"كيف كنت سأتناول يوم الأحد القادم دون أن أحصل على المسامحة؟ .
- "ليغفر لك الله يا أخي " .

في صباح الأحد التالي، في القداس الإلهي، عندما سُمع من شفتي الشماس:
"لنحب بعضنا بعضاً لكي نعترف بعزمٍ واحدٍ مقرين "، لمعت حينها دمعتا توبةٍ مباركتان تنهمران من عيني الأب خاريتون .

منشورات دير سيدة البشارة - حلب
قنشرين ـ نسيما سليم

عودة