النور يشرق من ظلام بابا عمرو في حمص
هذه القصة حقيقية ، ففي كلّ مكان يوجد أشخاص طيّبون. 

كانوا خمسة عشر شخصاً، وقفوا متجمّعين على قارعة الطريق العام ينتظرون شيئاً ما. كان المطر ينهمر بغزارةٍ والرياح الباردة تلفح وجوههم، ولا يحميهم سوى الأسمال الّتي وضعوها على رؤوسهم كي يقلّلوا تبليل المطر لثيابهم الوحيدة الّتي باتوا يملكونها.

 كانوا خمسة عشر شخصاً. نساء يحملن أكياساً برزت منها أطراف ملابس، وعجوز تتحرّك بصعوبة، وأطفال ورجل واحد يجرّ عربة طفلٍ متهالكة، والرضيع ينام فيها مرهقاً ومغطّى بأقمشة كي لا يبرد. ماذا يفعلون هنا على قارعة الطريق؟ إنّهم ينتظرون شيئاً. إنّهم ينتظرون أيّ شيءٍ. حين يفقد الإنسان كلّ شيءٍ يملكه، ينتظر أيّ شيء.

 ومرّ أب يسوعيّ من هناك بسيّارة الڤان. وحين رآهم توقّف وسألهم بنبرته المرحة المعهودة:

 - إلى أين يا شباب؟

 - أجابه الرجل: إلى أيّ مفرق طرقٍ تمرّ منه باصات دمشق.

 - حسناً، اركبوا. سيّارتي تتّسع لثمانية أشخاص، دبّروا نفسكم لتدخلوا كلّكم فيها.

 وبدون تردّد، فتحوا الأبواب ودخلوا السيّارة وهم يرتجفون من البرد، ورفعوا الدعاء إلى الله لأنّه أرسل إليهم شيئاً. وانطلق الڤان، وسأل اليسوعيّ الرجل الّذي جلس إلى جانبه:

 - من أين أنتم؟

 - من بابا عمرو!

 - بابا عمرو! الحمد لله على سلامتكم. إنشاء الله لم يصبكم مكروه؟

 تنهّد الرجل وقال: لقد طردونا.

 - مَن؟

 صمت الرجل. ففي هذه الظروف، يحسن أن يكتم الإنسان ما في قلبه إذا كان يجهل هويّة مَن يتحدّث معه أو ميوله. فتابع اليسوعيّ:

 - وإلى أين ذاهبون؟

 - إلى دمشق.

 - هل لكم أقرباء هناك؟

 - لا!

 - أصدقاء أو معارف؟

 - لا!

 - أين ستبيتون؟

 - في كلّ مكانٍ يوجد أشخاص طيّبون. ها حضرتكَ توقّفتَ وأخذتنا من دون أن تعرفنا ولا أنت من أقربائنا.

 وصمت اليسوعيّ. « في كلّ مكانٍ يوجد أشخاص طيّبون». واقتربت السيّارة من جسرٍ تمرّ من تحته الباصات المسافرة إلى دمشق. فنزل الجميع من السيّارة.

 - هل معك مال؟

 صمت الرجل، ثمّ أجاب بتردّد: الحمد لله.

 فأخرج اليسوعيّ من محفظته مالاً، وما إن رأت النسوة النقود حتّى رفعت أدعيتها لله طالبةً منه أن يبارك هذا الرجل الطيّب ويوفّقه ويحميه: الله يوفقك، الله يبعد عنّك كل مكروه. إلهي يحفظك ويحمي أولادك يا ربّ يا كريم، الله يستر عليك وعلى عيالك، الله ... حينها لم يستطع الرجل أن يرفض المال فأخذه وقال متردّداً:

 - لا داعي، كتّر خيرك أوصلتنا إلى هنا.

 ووصل الباص ليقطع الحديث. وصعد الجميع إليه، والأحلى من هذا كلّه أنّهم وجدوا أماكن للجلوس، في حين أنّ الباصات تمرّ هنا ممتلئة. كانوا ينتظرون شيئاً وها إنّهم ... يسافرون جالسين.

 وانطلق الباص. ومن زجاج نوافذه، لوّح الأطفال لليسوعيّ بأيديهم الصغيرة مودّعين مبتسمين. وعلى الرغم من هدير محرّك الديزل الّذي ملأ المكان، تردّد صوتٌ لا نعرف مصدره: «في كلّ مكانٍ يوجد أشخاص طيّبون».

 لقد ذهبوا إلى دمشق. ومنهم مَن ذهب إلى حلب أو إلى مدنٍ أو قرى أخرى آمنة. إنّهم ذهبوا مؤمنين بأنّه: «في كلّ مكانٍ يوجد أشخاص طيّبون». إنّهم يفتّشون عنهم، ويسألون عن عناوينهم. فهل أعطيهم عنوانك؟

 «جاءَ إِلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه. أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله. فهُمُ الَّذينَ لا مِن دَمٍ ولا مِن رَغبَةِ لَحْمٍ ولا مِن رَغبَةِ رَجُل بل مِنَ اللهِ وُلِدوا» (يوحنّا 1: 11- 13).

 
عن موقع الرهبنة اليسوعية في الشرق الأوسط

عودة