بطريرك التواضع
كان الراهب المسنّ، بجبهته القديمة، يصعد بجهدٍ المرتفع المؤدي إلى بوابة دير ذيونيسيوس. كم من السنوات مرت منذ ذلك الوقت، حين كان شاباً، يصعد بحركةٍ رشيقةٍ على هذا المرتفع نفسه. ما الذي سيتذكره هذا الشيخ المسن أولاً من بين ذكرياته   جميعها؟ مرت كل الذكريات كالسراب أمام عينيه الدامعتين من التأثر. كان راهباً فتياً حين جاء إلى هذا الدير، وبعد فترةٍ سيم شماساً ثم كاهناً. ومرت السنوات بالصلاة والصوم والطاعة. بعدها، وفي الوقت المناسب الذي اختاره الله نُصب مطراناً على عرش كنيسة تسالونيك.

كان المطران المتضع بقدر ما يتجنب تكريم الناس له، مجاهداً لأجل مجد الله فقط، بقدر ما كان الله يكرمه أكثر. فبعد بضعة سنوات سيم بطريركاً على مدينة القسطنطينية ومن خلال مكانته المرموقة تلك استطاع مساعدة وإرشاد الكثير من النفوس إلى طريق الله.

بعد عدة سنوات تلت، دعي البطريرك إلى رومانيا، كي يعظ بكلمة الله ويساعد المسيحيين هناك. عمل بنكران تام للذات، وبكثيرٍ من التعب والتضحية شدد إيمان آلاف البشر. لكن السنوات مرت وبدأت قواه تضعف، قرر البطريرك نيفن، بعد أن أصبح شيخاً مسناً، أن يعود إلى وطنه وإلى ديره المحبوب .

ها هو يقترب من بوابة الدير الكبيرة. إن قال للبواب من يكون، عندها سيعامله الجميع بكثير من التكريم والاحترام، لكنه لم يُرد ذلك. كان يرغب بقضاء ما تبقى له من السنوات بسلامٍ وتواضع. لذلك قرر إخفاء اسمه وشخصيته عن الناس. فمن كان سيتعرف عليه بعد انقضاء كل تلك السنوات؟

ـ "أُدعى نيقولا"، قال لبواب الدير، أول من استقبله.

طلب بعدها من رئيس الدير أن يقبله راهباً مبتدئاً في الدير، وأن يُوكل إليه أكثر الأعمال وضاعةً. وبالفعل تحقق ما أراده، فقد كان نظام الدير يفرض على كل راهبٍ جديدٍ أن يخدم في الحظيرة خلال سنواته الثلاث الأولى، فيهتم بالحيوانات التي كان الدير يملكها لنقل حاجاته، يقدم لها الغذاء والماء، ينظف الإسطبل ويرافقها أثناء عملها.

إلى جانب هذا العمل، أوكلت إليه خدمةٌ أخرى، فكان عليه أن يقوم بمراقبة البحر كل مساءٍ ساهراً على صخرةٍ مرتفعةٍ فوق الدير، لئلا تقترب إحدى سفن القراصنة، الذين كثيراً ما كانوا يسرقون وينهبون الأديار آنذاك.

كان البطريرك نيفن يتمم كل هذه الخدمات بهمةٍ وتواضعٍ كبيرين. يعمل بيديه أما ذهنه فكان عند الله دائماً. مرات عديدةً حاول الشيطان تذكيره بحياته السابقة: فيداه اللتان كانتا سابقاً تباركان وتناولان المؤمنين وتوزعان القربان المقدس، الآن توزعان الشعير والعلف على الحيوانات !

كان يسهر مراقباً البحر الليل بطوله، لكن قلبه كان في الوقت ذاته، يمجد الله دون توقف. في أوقات صلاته، كان رئيسُ الدير وبعض الرهبان يشاهدون عموداًَ نارياً صاعداً إلى السماء دون أن يعرفوا مصدر هذه الشعلة. كانت لصلاة هذا الإنسان المتواضع قوةٌ كبيرة. وبعد فترةٍ وجيزة، أراد الله كشف هويته. ففي إحدى الليالي ظهر القديس يوحنا السابق، شفيع الدير، للأب الرئيس وبصوتٍ صارم قال له:

ـ " حتى متى سيبقى البطريرك المسكوني في الحظيرة؟ حتى متى سيخدم الحيوانات ذاك الذي ساعد آلاف النفوس لتجد طريق الخلاص؟ انهض واجمع رهبانك وأخبرهم ما حدث وردوا له الإكرام الواجب".

ـ"لكن من هو هذا، قديس الله، البطريرك؟"، سأله رئيس الدير متعجباً.

ـ"إنه نيفن، الذي تدعونه نيقولا، المسؤول عن رعاية الحيوانات، يمتلك هذا الإنسان تواضعاً عظيماً حتى أن ملائكة السماء يتعجبون من تواضعه".

استيقظ رئيس الدير من النوم فوراً وجلس مفكراً بكلام القديس يوحنا السابق. الآن فقط استطاع حل لغز عمود النار الصاعد إلى السماء! نهض بسرعةٍ ودق الجرس. بعد قليل تجمع كل الرهبان خارج الدير حاملين الشموع والبخور للقاء البطريرك.

في ذلك الوقت كان البطريرك نيفن قادماً من الجبل، يجر أتاناً محملاً بالأخشاب، وعندما رآهم فهم فوراً أن أمره قد انكشف. أراد أن يبتعد هارباً من التكريم والمدائح، لكن بعض الرهبان ركضوا نحوه بأمرٍ من رئيس الدير، وباحترامٍ شديدٍ أوقفوه. سجد الجميع له طالبين المغفرة.

عاش البطريرك نيفن الثاني في الدير ثلاث عشرة سنة، سالكاً سيرةً بارة، ورقد في الحادي عشر من شهر آب عام ألف وخمسمائة وخمسة عشر عن عمرٍ يناهز التسعين.

في وقتٍ لاحقٍ، شيد في مكان اللقاء المؤثر بين البطريرك ورهبان الدير مزاراً صغيراً، ليحفظ ذكرى تواضع القديس العظيم نيفن .

نسيما سليم

منشورات دير سيدة البشارة – حلب

عودة