سلة الضيافة
خلال سنوات الاحتلال الألماني لليونان، نقص الطعام في الجبل المقدس وعاش الرهبان، كما أغلب الناس، أوضاعاً وحرماناتٍ صعبة.ولكن مع كل هذا الفقر والحرمان لم تتوقف الأديرة عن استضافة الزوار وتوزيع حتى ما كانوا بأمس   الحاجة إليه للفقراء والجائعين. في ذلك الوقت، شارف محصول القمح على الانتهاء في دير فيلوثيو، حيث لم تكن تتوفر مؤنٌ أخرى، وتأخر الصيف مع المحصول الجديد.

اجتمع آباء الدير ليتناقشوا بهذا الموضوع وقرروا أن يتوقفوا عن استضافة الزوار إلى أن ينمو محصول القمح الجديد، فيعاودون القيام بأعمال الإحسان والاستضافة. لكن الأب سابا، الراهب المسن في الدير والمتميز بتقواه الشديدة، تضايق جداً عندما سمع قرار الآباء. رجاهم كثيراً وحاول أن يردهم عن رأيهم، لأنهم بهذا سيحزنون الله وسيبعدون نعمته عن الدير. قدم لهم أمثلةً عديدةً وقصصاً مختلفةً عن إضافة الغرباء من الكتاب المقدس، فاستطاع أخيراً ثنيهم عن عزمهم، وهكذا استمرت استضافة الزوار وتوزيع ما تبقى من الخبز. مرت الأيام وكان الزوار لا يزالون يتوافدون إلى الدير، كان قد بقي في المخزن خمسةٌ وثلاثون كيلو من القمح فقط.

_"نفذ الطحين أيها الشيخ سابا، ماذا سنفعل الآن ؟"، سأله الآباء بانزعاج.
_ "سنتقاسم هذا القليل الذي بقي لنا مع الفقراء، وبعدها ليكن كما يريد الله"، أجابهم الأب سابا.
ومع بزوغ فجر اليوم التالي، كان الرهبان قد عجنوا وخبزوا آخر ما تبقى من الطحين. جلس الرهبان جميعاً بعد القداس الإلهي ليتناولوا الطعام، لكنهم كانوا متضايقين وقلقين !
_ "ما الذي سيحدث الآن؟"، تساءل العديدون. اليوم لدينا ما نأكل، لكن غداً ماذا سيحل بنا؟ ماذا سنقدم للفقراء؟".
كانت حصة كل منهم قطعةً صغيرة من الخبز، واحتفظوا بما تبقى للفقراء الذين سيأتون طلباً للطعام. وبدون شهية قرر العديد من الرهبان ترك حصصهم في سلة الضيافة!
بعد قليلٍ بدأ الزوار بالتوافد إلى الدير، محضرين معهم أولادهم الجائعين.
_ "نحتاج القليل من الخبز أيها الآباء ألديكم القليل؟"، سألهم الزوار بقلقٍ وهم يرنون إلى السلة.
_ "تفضلوا خذو!"، قبلهم الرهبان، "ها ما تبقى من الخبز!"، وبحزنٍ أشاروا إلى سلة الضيافة الكبيرة.
أخذ الزوار من السلة ممجدين الله . وبعد قليلٍ جاء غيرهم وغيرهم حتى فرغت السلة تماماً ولم يبق فيها سوى بعض الفتات.
بدأ الرهبان بالاحتجاج على الأب سابا.
_ "لقد نفذ الخبز، ماذا سنفعل غداً؟".
_ "أتظنون أن الله لا يرى نفاذ الخبز لدينا؟"، أجابهم بثقة تامة، "ليكن لكم إيمانٌ، لم يتركنا الله أبداً ولن يتركنا الآن، فلا نضعن ناموسنا فوق ناموس الله. إنه الآن يجربنا فقط. سترون كيف أن العذراء ستتوسط لنا وستصنع معنا إحساناً من جديد"، قال هذا وانسحب نحو إحدى زوايا حديقة الدير الخضراء، أمسك المسبحة وبدأ يصلي. وعند حلول المساء مر بعض الزوار أمام بوابة الدير.
_ "هيا انهض أيها الشيخ سابا، أعطهم بعض الخبز. لم يتبق لديكم ولا حتى الفتات!"، أزعجه بعض العمال.
_ "باركوا أيها الآباء"، بادر بالتحية الزوار الذين كانوا كما يبدو بحارين.
_ "ليبارككم الله"، أجاب الرهبان.
_ "لقد تركت زورقي في الأسفل عند الميناء"، قال القبطان، "أنقل حمولةً من القمح وأرغب باستبدالها ببعض أخشاب الكستناء. مر وقتٌ طويلٌ وأنا أبحث، لكني لم أوفق حتى الآن في إيجاد ما أبحث عنه".
_ "لدينا أخشاب كستناء!"، صرخ الرهبان والتفوا حوله، "كم تحتاج منها؟".
_ "أحتاج بعضاً من هذه وبعضاً من تلك", شرح لهم.
فتوجه الرهبان فوراً نحو مخزن الأخشاب. تقدم القبطان بين الأخشاب يتفحصها ويعدها.
_ "رائع! نرجو أن يكون لدينا ما يحتاجه"، فكر الرهبان منتظرين بقلقٍ.
_ "وأخيراً وجدت ما أبحث عنه"، قاطعهم صوته حالما انتهى من التفحص، "هذه الأخشاب هي ما أبحث عنه بالضبط أبعادها تناسبني تماماً، وكميتها هي ما أحتاجه تحديداً، وفوق ذلك نوعيتها ممتازة أيضاً".
_ "المجد لله!"، صرخ الرهبان بصوتٍ واحدٍ بعد أن عاينوا رعاية الله الحية أمام أعينهم.
لم يفهم القبطان ردة فعل الرهبان وتعجب من شدة فرحهم، لكن بعد أن شرحوا له قصة سلة الضيافة وعناية العذراء، فهم عندها لماذا لم يجد هذه الأخشاب في مكان آخر.
_ "أرأيتم يا إخوتي! لم تتركنا العذراء"، كرر الأب سابا بإيمانٍ كبير.

انطلقت الحيوانات المحملة بالأخشاب نازلةً الدرب المؤدي إلى الميناء. وها بعد قليل ستصل حمولة القمح إلى الدير.
في الصباح التالي امتلأت سلة ضيافة الفقراء بالخبز مرةً أخرى لتشبع جوعهم وحرمانهم. أما الرهبان فتقوى إيمانهم متشددين بمثال الأب سابا.


نسيما سليم
منشورات دير سيدة البشارة – حلب

عودة