لن أغفر لك يا ابي ولا أنت يا أمي!
فركت (س ) عينيها بيديها ثم هتفت من عمق قلبها :
"ترى هل انا في حلم جميل أم تحقق المستحيل ؟"
 

كان ذلك في شهر اغسطس 1991 ...أسعد الأشهر على وجه الاطلاق في حياة (س)وحيدة والديها التي نشأت في ارقى العائلات في احدى محافظات صعيد مصر . و بالتحديد كان هناك يومان في حياة (س) لن تنساهما: الأول يوم نتيجة ظهور الثانوية العامة ..

و الثاني يوم ظهور نتيجة التنسيق واستلامها الكارت ومكتوب عليه اسمها ومعه اسم كلية الصيدلة حلم حياتها الأول، ولكن كان عصر ومساء هذا اليوم أكثر اثارة. فلقد استيقظت الساعة الخامسة ظهراً عندما شعرت بيد تمتد تحت الوسادة التي تنام عليها وعندما وجدت اباها ابتسمت ابتسامة ووضعت يدها تحت الوسادة لتجد مفتاحاً بسلسلة و عندما رفعته أمام عينيها قال أبوها :" انها العربة التي كنت تحلمين بها يا اعظم دكتورة ..تتناسب مع ابنتي الأمورة لتذهب بها الى الجامعة "...

قفزت (س)من على السرير وهي تقبل والدها وفي لحظات كانت تقف تحت العمارة وهي تتأمل في عربتها الحمراء الجديدة ..وهي تتلألأ في بهاء كالعروس.

رجعت (س)من النادي في المساء وبعد العشاء دخلت حجرتها فكاد قلبها يتوقف من الفرح فها هو أمل حياتها السعيد ...البيانو الجديد قد وضع في حجرتها ولمحت فوقه كارت مكتوب عليه: (هدية حبية لأجمل صيدلانية ) التوقيع ..ماما ..

و بعد أن قبلت أمها جلست (س)لتعزف أعذب الألحان فلقد ابتسم لها الزمان ، ولم يمض الا 4 اشهر فقط حتى كان شهر ديسمبر 1991 حيث بدا الإرهاق والإعياء الشديدان على وجه(س)وظن الجميع في البداية انه نتيجة طبيعية لمجهود الدراسة في الكلية حتى كانت (س) بين يدي أشهر الأطباء من أساتذة الجامعة ....ولن تنسي (س)يوم أن وقفت بجسد تعبان .وذهن حيران تسمع من خلف الجدران ما يقوله أستاذ التحاليل لتسمع كلمة سرطان .


نعم( سرطان الدم )كلمة كانت كالسهم طعنتها بسيف الأحزان فيما داخل الكيان ... مرة أخرى كانت (س)تجلس لتعزف على البيانو الجديد لكنها عزفت الحان الأشجان و كأنها تناجي هذا السرطان :

أيها السرطان يا منبع الأحزان ..ألم تتعلم شيئا عن الحنان ؟

ألا تعرف أن تفرق بين انسان وانسان

بين فقير وبين سلطان بين الشيوخ والشبان ..

بين انسان فرحان واخر يغرق في الأحزان ..

و تلاشت كل وعود الأب من صرف ملايين الجنيهات على (س)لتغيير الدم في مستشفيات اوربا فلقد ساءت الحالة سريعاً و في 3 أيام كانت (س)تنام وقد فقدت الوعي بالتمام ولكن فجأة استيقظت (س)من الغيبوبة وكان الأب يمسك بيدها اليمني والأم بيدها اليسرى و عندما نظرت اليهما انهارت (س)في بكاء رهيب ثم قالت لهما :

" بابا ..ماما.أشعر اني سأغادر الأرض عن قريب وأحاول أن أغفر لكما ولكن لا أستطيع ".

كانت هذه الكلمات كالعاصفة الصاعقة علي ولديها لا سيما كلمة (أغفر لكما ! )

فقال لها الأب وهو يحاول ان يتمالك دموعه بلا جدوى :"..تغفري لي يا ابنتي ..تغفري ماذا ؟..علي ..."

عنده قاطعته (س)قبل ان يكمل جملته ..

:"بابا ليس لأجل الصيدلة أو العربة ولا النادي ولا البيانو فأنا مديونة لكما بالشكر لأنكما علمتماني كيف أعيش عيشة كريمة , و لكن يا بابا لم تعلماني كيف أموت ميته سعيدة ..فها أنا أغادر الأرض والظلام يحيط بي ولن يفيدني كل ما تعلمته عن الحياة السعيدة في لحظات موتي الرهيبة ..

أنا خائفة ومرتعبة ولا أعلم ماذا سيصادفني بعد الموت. ليتني ما تعلمت كيف اعيش في احلام واوهام ..ولكنني تعلمت كيف أموت في هدوء وسلام ..قالتها(س) ثم رددت كلمات عن الظلام والآلام ثم رحلت في رعب الى ابدية لا نهاية فيها للسنين والأيام ...

عندها صمت بيانو (س)عن الألحان فبعد أن عزف سيمفونية الأفراح تلتها سيمفونية الجراح، لقد تعلمت ((س)في حياتها السلم الموسيقي و لكنها لم تعرف اللحن الحقيقي،اهتمت بحياتها الأرضية و لكن لم تعرف الحياة الأبدية.

أحبــــائي في المسيــــــــح
القصة هذه حقيقية ولا تحتاج الى تعليق .. حياة أولادنا امانةً كبيرةً جداً في رقبتنا .. في اليوم الأخير اولادنا هيبكوا و يقولوا يابابا او ياماما ليه ماعلمتنيش ..ليه ماخلتنيش اقرا الكتاب المقدس ؟ ليه ماعلمتنيش ؟هل بنهتم بان اولادنا نوفي لهم كل احتياجاتهم الأرضية من غير ما نلفت نظرهم للحياة الأبدية الأهم .. هل بنهتم انهم ياخدوا شهادات اكتر من انهم يعرفوا ربنا ؟..مفيش تعارض ..وعمر ما كلمة ربنا هتعطلهم عن مذاكرتهم أو تجهدهم .. هل بنهتم نجيب لهم العربية و الموبايل و اللاب توب ..و ننسى نهديهم باعظم هدية اننا نعرفهم الحياة الأبدية.

رصد قنشرين

عودة