ملبن يا راهب ؟
يروي أحد الرهبان المتوحدين : 

" كنت في أحد أيام شهر مايو الماضي , قد استيقظت كالعادة في الوقت المحدد ككل يوم , كل شئ على ما يرام , صليت صلوات الصباح , ثم بعد أن انتهيت منها خرجت خارج المغارة , أتأمل يد الله في مشهد الشروق , بقيت هكذا لمدة ساعة , ثم دخلت بعدها ثانية إلى مغارتي للقراءة , و قلبي مليء بمشاعر تكفيني طيلة اليوم .

جلست على الأرض وأسندت ظهري إلى الحائط , ثم مددت يدي لألتقط كتابي المقدس , وإذ بشئ يحدث لم يعرض لي منذ عشرات السنين , شعرت بطعم غريب في حلقي .. ما هذا يا ربي ؟؟ حاولت ألا أفكر في الأمر وأن أكمل يومي كما يسير , و لكني تذكرت هذا الطعم , نعم إنه طعم "الملبن" .

تعجبت كثيراً فأنا لم أذق هذا النوع من الحلوى منذ ما يقرب من أربعين سنة , حاولت ألا أعير الأمر اهتماماً , و بدأت أقرأ في الكتاب المقدس , و لكن لم تمر إلا لحيظات قليلة وإذ بي أفقد تركيزي وشهوة الملبن تشتعل داخل حلقي , أغلقت كتابي ووضعته في مكانه وقمت أصنع ميطانيات أمام الله أطلب منه أن يسري هذا اليوم على خير , ثم أنهيت الميطانيات و طعم الملبن لا يزال في فمي .. فخرجت خارج القلاية أحدث نفسي :
" ملبن يا راهب !! ملبن يا متوحد ؟؟ أجئت إلى البرية هنا لتبحث عن الملبن ؟! إذا كان الرهبان في الدير لا يرونه , أتطلبه أنت هنا في الصحراء يا متوحد ؟! ملبن يا عجوز !!! "

دخلت أيضاً إلى قلايتي وأغلقت بابي عليّ , صرت أتضرع إلى الله أن يرحمني و يتحنن عليّ , وأسكب أمامه نفسي حيناً بالميطانيات و حيناً بالدموع و حيناً آخر بقرع الصدر , أطلب منه ألا تتسلط عليًّ هذه الشهوة , وألا تكون نهاية أيامي معه بشهوة مثل هذه .

صرت هكذا طيلة هذا اليوم , وأنا في حال غير مستقرة , إلى أن غادرت الشمس سماء الصحراء الواسعة , و بدأت تعطي شفق الغروب الأخير ...
و إذ بي أجد باب القلاية يقرع ........
رشمت ذاتي بعلامة الصليب ثم ذهبت لأسأل عن الطارق , فرد عليَّ : " أغابي يا أبي "
فقلت : " أغابي "
فقال : " أنا إبنك أبونا القس فلان , هل تصنع معي محبة "
ففتحت له و وجدته فعلا أبونا "س" و قد كان متعباً جداً , فسألته عما أتى به إلى هنا , فأخبرني أن الطبيب أوصاه أن يمشي كثيراً كل يوم لأنه مصاب بمرض السمنة , فأخذ يتمشى في الصحراء حتى ضل الطريق وإذا به عند باب مغارتي .
رحبت به واستقبلته عندي هذه الليلة , و صلينا سويا ثم نمنا , و في الغد استيقظنا وصلينا أيضاً حتى شروق الشمس , فاستأذنني أن يغادر , فقلت له : " لابد أن أوصلك حتى لا تضل الطريق ثانية "
, رفض كثيرا , و لكني صممت على ذلك .

مشينا سويا في الصحراء حتى وصلنا على بعد أمتار قليلة من أسوار الدير , فقبلنا بعضنا البعض وشكرني كثيراً , ثم ابتسم لي , و أخرج لي من جيبه شئ مستطيل ملفوف في ورقة و قال لي : " اتفضل يا ابونا دي من إيد المسيح واللي من إيد المسيح ماترفضوش " , فشكرته وودعته , ثم رجعت إلى قلايتي .

عدت إلى القلاية , و صليت صلاة الساعة التاسعة في وقتها المعتاد , ثم جلست لأقرأ , و بعد أن انتهيت من قراءتي جاءت عيني على الورقة التي أعطاني إياها أبونا .. أخذت الورقة ثم فتحتها ... و إذ بها قطعة من الملبن !

نظرت إليها وأنا أتعجب مما كنت فيه بالأمس , حيث لم تعد في بالي هذه الشهوة التي كدرت عليّ يومي الماضي , و تذكرت أني حتى في صغري لم يكن يستهويني هذا النوع من الحلوى .ضحكت كثيرا , و تذكرت كلمة أبونا لي " دي من إيد المسيح ".وضعت قطعة الملبن حتى آكلها وقت المساء , و صرت أتأمل طيلة هذا اليوم في حنو الله علينا وكيف أنه لا يهتم بنا فقط بل يدللنا أيضاً " على الأيدي تحملون وعلى الركبتين تدللون "

عجيب هو الله في حنوه .... فهو لا يعطينا الأشياء الضرورية التي نحتاجها فقط بل حتى الأشياء التي قد تبدو غير ضرورية وصغيرة في نظر الناس .

إن تأملت قليلا فيه سوف لا تجده إله الملايين والمليارات من البشر , بل إلهك الشخصي الذي يهتم بكل تفاصيل حياتك , ويعطيك كل ما تحتاج و لكن علي شرط ألا يصارعه في قلبك احتياجك هذا.
" أطلبوا أولا ملكوت الله و بره و كل هذه تزاد لكم "

رصد قنشرين

 

عودة