الفداء
كانت الدقائق تمر علينا وكأنها ساعات طوال. ترى هل ستأتي الساعة الرابعة صباحًا، ونحن لا زلنا نراقب عقارب الساعة التي لم تتجاوز الواحدة والنصف بعد، ترى هل سيمهلنا القدر هذه الساعات الباقية لإنتهاء مدة منع التجوّل التي كُتب علينا أن   تُحبَس حريتنا فيها من الساعة الثامنة مساءً بحسب ألأوامر ألعسكرية ألصارمة. ترى هل باستطاعتة التغلب على نوبات الألم التي تجتاح صدره وكأنها إعصارٌ مدمرٌ. ترى هل سيشفق هذا القلب على صاحبه ويرتاح قليلاً كي ترتاح معه العيون المتعبة من السهر المضني، وكي ترتاح العقول أيضًا من الفكر المقلق الذي يأخذنا لتصورات لا يحتملها البشر.

كنت أنظر إليه فلا أفهم معنى نظراته. أهي نظرات شفقة علينا، أنا وأبنائه الخمسة، الذين ليس باستطاعتنا تحريك ساكن أو حتى الشروع بمساعدته؟ أم هي خوفٌ وقلقٌ علينا مما يخبئه القدر لنا إذا أصابه مكروهًا؟ أم هي نظرات عتاب لأنه يتوقع منا القيام بما قد ينقذ حياته؟

نعم، إنها نظرات استغاثة، فالغريق يبحث عن قشة تحملها له الأمواج ليتعلق بها عسى أن تكون بها نجاته. ولكن كيف لنا أن نغيثه ونحن مسلوبو الحرية ومشلولو الحركة.

وقطع عليّ تفكيري صوت إبني الأكبر وهو يدعوني أن أقدم لوالده قرصًا من الدواء لربما يسكن أوجاعه ويقلل من حدة آلامه ويصبره حتى الصباح. كان سؤاله لي كوقع الصاعقة، أتاني من حيث لا أدري ولا أتوقع ليشل حركتى ويخرس لساني. فأنا أعلم أن الدواء قد نفذ منذ ساعات الصباح وقد عهدت إلى إبني الأصغر مهمة شرائه من الصيدلية ولكن لسبب ما لم يتمكن من إحضاره، ولسوء حظنا إنشغلت عنه ولم أتذكر إلا بعد فوات ألأوان. وهروباً من هذا الموقف، وتسترًا على ولدي كتمت هذا الأمر وتظاهرت بعدم معرفتي بنفاذ ألدواء. ثم وجهت نظري نحو أحدهم وطلبت منه إحضار قارورة الدواء رغم علمي بأنها فارغة لا تحتوي على شيء. وبين صرخات الوالد، وتضرعات الأبناء وصلواتهم وتهدئتهم لوالدهم بأنه لا خطر عليه وانه ما عليه إلا أن يصبر، وتشجيعهم له بأن يتحمل الألم حتى الصباح، جاءني صوت ولدي معلنًا أنه لا دواء في ألقارورة، فتصنعت الذهول والدهشة وضربت كفًا بكف وأنا أتساءل ما باستطاعتنا أن نفعل. لم أسمع من أولادي ردا على سؤالي، ولم أسمع منهم سوى كلمات العتاب وإلقاء اللّوم عليّ مما دفعني إلى التهرب من إتهاماتهم محاولةً إصلاح خطأ لم أرتكبه متجهةً نحو ألباب بعد أن إلتقطت غطاء رأسي الذي كان ملقًا على السرير بجوار زوجي. نعم، أردت التكفير عن ذنب لم أقترفه، ليس بالكلام وإنما بالفعل. فقررت المخاطرة والخروج بأي ثمن وإن كلفني ذلك حياتي. فأنا أعلم يقينًا مدى الخطر الكامن في الخارج والذي قد يطول كل من تسوّل له نفسه الخروج من منزله وكسر الأوامر العسكرية الصارمة.

وما أن فتحت الباب حتى تعالت الصرخات: إلى أين؟ أين تذهبين في هذه الساعة والشوارع ملآنة بالجنود وخطر الموت محدقٌ بكل من يخالف الأوامر؟ لم أكترث بصرخاتهم ولا بتوسلاتهم وفتحت الباب واتجهت خارجًا فانقض زوجي عليّ وجذبني من الخلف وأخذ يجرّني وهو يتوسل إليّ أن أعود، زاعمًا أن حالته قد تحسنت وليس بحاجة بعد إلى الدواء وباستطاعته الانتظار حتى الصباح. وبينما كان يحاول إقناعي بالعدول عن رأيي، انهار بين أيدينا وسقط أرضًا. وبينما كُنا نحاول إدخاله إلى المنزل سمعنا صوت زخات من الرصاص تخرق السكون قريبًا من منزلنا. لم نعرف سبب تلك الطلقات، فهذا شيء تعودنا عليه في زمن الاحتلال وأسرعنا بالدخول إلى البيت وأغلقنا الباب خلفنا. وما أن مضت دقائق معدودات حتى سمعنا طرقات عنيفة على الباب كادت تحطمه تصحبها صرخات شديدة تأمرنا بفتح الباب بسرعة.

سارعت إلى أبنائي وطلبت منهم السكينة والجلوس بجوار والدهم الذي ما زال ملقًا على الأرض ريثما أفتح أنا الباب لهم. وما أن فتحت الباب حتى هرول الجنود إلى الداخل، منتشرين بكل إتجاه. حاولنا الاستفسار ولكن أحدًا منهم لم يعطنا ردًا على تساءُلنا، وما هي إلا لحظات حتى وجدنا أنفسنا جميعًا نجلس على الأرض تحت حراسة بعض الجنود الذين سددوا فوهات بنادقهم إلينا. نظرت إلى أبنائي فوجدتهم أربعة فقط، تُرى أين الإبن الخامس. خفت أن أسأل إخوته عنه فلربما يسمعني الجنود ويصرون على إيجاده. لربما إختبأ في مكان ما منتظرًا إنصرافهم فكثيرًا ما إختبأ الأبناء أثناء التفتيش. أو ربما قد اقتادوه أثناء دخولهم لداخل المنزل لإرشادهم أو لجعله درعًا بشريًا إذا ما حاول أحد التصدي لهم. وبينما تكاثرت التساؤلات في ذهني، طلب منا الضابط أن نقف جميعًا فوقفنا، ولكن زوجي لم يقدر على النهوض فإتجهت نحوه لأسنده، ووجهت نظري إلى الضابط وطلبت منه متوسلةً بأن يشفق عليه ويصنع معروفًا مع رجلٍ يصارع الموت ويعفيه من ألوقوف. إتجه الضابط نحو زوجي، ودون أن يتكلم أخذ ذراعه بيده وتحسس نبضه ووجه كلامه لأحد الجنود بلغة لم أفهمها، فإنطلق الجندي مسرعًا إلى الخارج. وما هي إلا ثوانٍ حتى عاد مع جندي آخر يحملان نقالة، وسرعان ما وضعاه عليها وانطلقا به إلى الخارج بينما طلب منا الضابط عدم مغادرة البيت، فتوجهت إليه طالبةً منه ومتوسله أن أرافقهم، فلم يمانع.

إنطلقت المركبة العسكرية وهي تحملني أنا وزوجي إلى المستشفى، فمررنا بمجموعة من الجنود يتفحصون جثة ملقاة على ألأرض. وما أن اقتربت العربة حتى لمحته... لقد عرفته من ملابسه... انه هو... نعم، هو إبني! ألآن فقط عرفت سر غيابه. لقد غافلنا وخرج كي يأتي بالدواء لوالده من المستشفى الذي لا يبعد كثيرًا عن منزلنا. ولكن القدر كان له بالمرصاد فنال منه؛ لقد قتل بالرصاص ألذي سمعنا طلقاته. لقد كان هو ذلك الهدف. شعرت بقلبي يتمزق والعربة تبتعد عنه دون أن يتسنى لي أن أضمه وأقبله. كتمت دمعتي، وكتمت حسرتي كي لا يشعر زوجي بشيء ويتيقن للأمر فيكون الخطر أكبر.

لقد قُتل وفي نيته أن ينقذ أباه من الموت. لقد أنقذه فعلاً، فإن قدوم الجنود كان بسببه. فهو الذي قادهم، وبدون أن يدري، إلى البيت كي ما يسعفوا والده. لقد دفع حياته ثمنًا غاليًا لكي ينقذ حياة والده.

بقلم: يوسف الياس متى
رصد قنشرين

عودة